رحلة الموت
بقلم الكاتب
نصير أحمد الريماوي
19/4/2011
نجهز أغراضنا
استعدادا لزيارة شقيقي في المعتقل قبل النوم.. ثم ننهض أنا وأمي عند الساعة الثالثة
مع انبلاج الفجر في اليوم التالي.. تأتي السيارة عند الرابعة- طبعاً والدتي تبلغ من
العمر (55) عاماً وهي مصابة بجلطة في ساقها اليمنى ولا تستطيع المشي بسهولة- أمسكها
من تحت إبطها وألازمها الرحلة.. تنقلنا السيارة إلى من بلدة بيت ريما إلى مدينة
البيرة حيث تتجمع باصات الصليب الأحمر عند الساعة الخامسة صباحاً لنقل أهالي الأسرى
إلى السجون الإسرائيلية لزيارة فلذات أكبادهم، وهناك تشاهد النساء الحوامل والأطفال
الرضع، والأمهات ورجال كبار في السن، ومرضى، وشباب، وشابات خليط من البشر الراغبين
بزيارة المعتقلين..
وفي ظل هذا الجو البارد و الماطر أحيانا أو القائظ أحيانا
أخرى والمرضى يئنون والأطفال يصرخون وحالة إنسانية موجعة فعلاً.. في هذه الأثناء
يجيء موظف الصليب الأحمر يدقق ويراجع أوراق كل شخص يدخل الباص، وذلك للتأكد من وجود
تصريح بذلك مع وجود الشخص أيضاً.. وتوجد أنواع من التصاريح الممنوحة ، منها يُعطى
للمرفوضين أمنيا وفق السياسة الإسرائيلية (سجين سابق،أو مطلوب، أومن يمارس نشاطاً
سياسياً) وهذا النوع يكون لمرة واحدة فقط، وأيضا تُعطى تصاريح لمدة سنة، وهناك
تصاريح تمنح لمدة ستة شهور للأقرباء من الدرجة الأولى(أم، أب، أخ، أخت، زوجة أو
الأبناء)..إلخ..
يكون الزائر عادة في حالة صعبة جداً، وبخاصة أولئك الذين معهم
أطفال بحاجة إلى عناية مستمرة، وعجزة فهؤلاء يتعرضون لنزلات برد، ومنهم لم يرَ
الأسير منذ (16) سنة، أو أربع سنوات أو خمس سنوات..
بعد الانتهاء من عملية
التدقيق تنطلق الحافلات بنا إلى الحاجز العسكري الإسرائيلي قرب قرية بيت سيرا، وهو
عبارة عن براكيات ومعابر مُذلة، ويجب أن ينتهي تفتيش الخمس باصات من قبل جيش
الاحتلال خلال ساعة ونصف، وكان ذلك يوم الخميس بتاريخ 7/4/2011، وبعد الانتهاء
سمحوا لقافلة أهالي المعتقلين بالمرور إلى سجني "نفحة" و "رمون" الصحراويين مع
حراسة عسكرية مشددة من الأمام والخلف طول المسافة التي استغرقت مدة ثلاث ساعات
متواصلة، وممنوع حصول أي عطل في إحدى الحافلات، وإذا حصل عطل ما في بعضها خلال
السفر يتم توقيف جميع الباصات حتى يتم إصلاح الخلل دون مراعاة حالات المرضى
والأطفال والحوامل..
وصلنا السجن المشؤوم.. نزلنا من الباصات.. جلسنا في ساحة
الانتظار .. جزء منها مظلل والجزء الباقي مكشوف للشمس.. ثم تقدمنا إلى ما يعرف
"بشباك الأفواج" وحصلنا على أرقام للزيارة، فجاء دورنا في الفوج الثالث لزيارة
شقيقي "بلال البرغوثي" المحكوم عليه بالسجن لمدة (16) مؤبداً و(35) سنة ، وكان هذه
الزيارة هي أول زيارة يسمحون لي بها منذ أربع سنوات كانت فرحتي لا توصف بالزيارة، و
تأهبت نفسيا للقاء ورؤية أخي.. طبعا جلسنا كباقي الأهالي ننتظر سماع صوت مكبر الصوت
للمناداة على أسماء الأسرى لزيارتهم.. لحظات حتى نادوا بمكبر الصوت: بلال البرغوثي
زيارة... تأبطت أمي على الفور من لهفتي وتقدمنا نحو طابور التفتيش والاصطفاف على
الدور.
هنا يمررونا عبر جهاز الكشف عن المعادن وكل ما رن الجهاز أو أعطى إشارة
ضوئية يتوقف الدور، ويتم التفتيش يدويا، ويتعرض الشخص أحيانا للتعرية الجسدية
والإهانة أمام الناس، وإذا تم ضبط شيء معه مثل: شريحة هاتف أو غيرها يتم حرمانه من
الزيارة لمدة عام!!
كانت أمي تقف أمامي بشق النفس.. وتتألم.. وأنا ممسك بها حتى
لا تقع على الأرض.. سمحوا لها بالدخول لزيارة شقيقي، بينما أنا قال لي الشرطي قبل
تفتيشي: أنت كنت سجيناً سابقاً.. ممنوع من الزيارة!! سألت الضابط: لماذا إذاً
أعطيتموني تصريحا للزيارة، فرد عليّ بالرفض، والزجر، وردد: ممنوع تدخل..
رجعت
إلى ساحة الانتظار.. صدمت نفسيا..ً لكني لم أظهر لجنود الاحتلال مدى تأثري من سياسة
الحرمان والقهر..
وكذلك واجه الشاب "محمد فلنه" من قرية صفا نفس القرار علماً
أنه محروم من زيارة شقيقه منذ(16) سنة؟؟؟ وكان يقف خلفي.. جلسنا ننتظر حتى انتهاء
الزيارة التي استغرقت مدة ثلاث ساعات أو أكثر حتى عادت والدتي محملة بسلامات
شقيقي.. وبعد انتهاء الزيارة عدنا إلى الحافلات ثانية عند الساعة الخامسة مساءً،
وهنا تظهر معاناة الأهالي أكثر.. بعضهم يعاني من المنع من زيارة الأحبة الأسرى،
ومنهم يتألم من وضعه الصحي، والمرضى يئنون ويستفرغون داخل الباصات، والأطفال ينامون
على أرضياتها بين المقاعد وبعضهم يبكون، والحوامل تضيق بهن الأرض ذرعا من التعب حتى
وصلنا عند الساعة التاسعة ليلاً منزلنا وكانت والدتي في وضع بائس جداً كبقية
الأهالي من رحلة الموت هذه..
هذا ما ذكره لي "وائل يعقوب البرغوثي" في حديثه عن
معاناة أهالي الأسرى أثناء زياراتهم.